مغارة برنارد لويس: خيول وأوراق مخابرات وطعام شرق أوسطي

قيل وكتب الكثير عن المؤرخ البريطاني برنارد لويس (1916ـ 2018) وما كتبه حول العرب والإسلام والشرق الأوسط في العقود الماضية. ولعل أشهر هذه الملاحظات والانتقادات ما ذكره بحقه إدوار سعيد، عندما وصف كتابات لويس بالعنصرية والإمبريالية والجهل، وعلى الرغم من وجاهة بعض هذه الآراء في بعض الزوايا، فإنّ ما يُحسب على هذه الآراء، بالمقابل أنها بقيت تحاكم كل إنتاج لويس من منظور الخلافات السياسية، كما أنها لم تتح لنا فرصة الاقتراب أكثر والتعرّف على تجربته، وبالأخص في الشرق الأوسط.
والطريف أنه في عام 2004، كان لويس قد نشر كتابا عن أوكسفورد وتُرجِم لاحقا للعربية بعنوان «من بابل إلى التراجمة: تفسير الشرق الأوسط»، وذكر في هذا الكتاب الواسع تفاصيل من حياته وجولاته الميدانية في القاهرة وإسطنبول. ومن خلال هذا الكتاب تبيّن أن الرجل كان يمتلك معرفة جيدة بالشرق الأوسط، عكس ما يقال عنه، كما بدت اهتماماته متعددة. كما بدا في جولاته حريصا على التقاط صور من الحياة اليومية، وهذا ما نراه مثلا من خلال رصده لحياة الكتب والمنشورات في قاهرة السيتينات، وأيضا شغفه بالبحث في مصادر جديدة في تاريخ المنطقة، الأمر الذي تحقق بشكل كبير في دخوله، كما يقول لمغارة الأرشيف العثماني.
بعد هذه الكتاب بسنوات، صدر للويس كتاب آخر عن سيرته البحثية في المنطقة، التي روى فيها تفاصيل أكثر عن بداياته الأولى في الشرق الأوسط، وعن عمله في جهاز الاستخبارات البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، ودخوله للأرشيف العثماني، وزياراته إلى فلسطين وسوريا (قرى الإسماعيليين) وطهران، وعشرات التفاصيل الأخرى. وفي هذه السيرة، التي ترجمت مؤخرا للعربية بعنوان «هوامش على قرن مضى: خواطر مؤرخ مهتم بالشرق الأوسط» ترجمة عبد الله الأسمري، دار الرافدين، تتعمق معرفتنا أكثر بإنتاج لويس وأدواته. وأيضا نكتشف من خلاله تفاصيل عديدة عن المنطقة، وما عرفته من تحولات كبيرة من الخمسينيات.

من أصول الإسماعيليين إلى الحرب

انضم لويس في الثلاثينيات إلى جامعة لندن لدراسة الشرق الأوسط، والعالم العربي بالأخص. في تلك الفترة، كان أستاذه السير هاملتون جب مؤلف كتاب «الاتجاهات الحديثة في الإسلام». وقد ولد هاملتون جب في مدينة الإسكندرية في مصر، حيث عمل والده في شركة لاستصلاح الأراضي. وفي أحد الأيام اقترح على لويس زيارة الشرق الأوسط، وهذا ما حدث في عام 1937/1938. ويبدو في هذه الزيارة، أنّ لويس زار مناطق عديدة في المنطقة، ومن بينها قرى إسماعيلية في سوريا، وهذا يعود إلى كونه كان يعد أطروحة حول (أصول الإسماعيلية). لكن لن يستطيع لويس وقسم كبير من الطلاب البريطانيين إكمال دراستهم في السنة اللاحقة، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبحكم معرفة لويس بلغات المنطقة (العربية وبعض الإلمام بالتركية)، فقد التحق بالعمل في وزارة الخارجية البريطانية. وفي هذه الفترة، لا يبدو لويس متحرجا من عمله في الوزارة، ولاحقا جهاز المخابرات، وإنما يبرر ذلك بكون ما دفعه لذلك هي ظروف الحرب، التي أجبرت كل البريطانيين والأوروبيين على الالتحاق بجبهات القتال. دهش لويس عندما جرى تعيينه خبيرا في الشأن التركي، وهو لم يكن قد زار تركيا سوى أسبوعين ونصف الأسبوع. في هذه الأثناء، بدت تركيا كما يذكر تفضل الحياد على الانضمام لطرف على طرف آخر في الحرب.

اسطنبول 1950 ـ منطقة ايمنونو

خيول لورنس

لكن الغريب هنا، أنّ منصب لويس في الخارجية لم يرق له كثيرا. ولذلك يذكر أنه بعث رسالة إلى مكتب شؤون الحرب لعرض خدماته، وبالفعل تم تعيينه في المكتب. ومن القصص الطريفة التي حدثت معه بعد عدة أيام، قرر المكتب إرساله إلى وحدة تدريب كادر الضباط في سلاح الفرسان. وهو قرار بدا للويس غريبا في حديثه مع أحد الضباط. يقول لويس قلت له: «لكننا في عام 1939. من يستخدم سلاح الفرسان هذه الأيام»، نظر إليّ وقال: «هل سمعت عن لورانس العرب من قبل؟»، قلت «بالطبع». «حسنا هل كان سيتمكن من تحقيق ما فعله لو لم يكن قادرا على ركوب الخيل؟»، لكن لويس سيصاب لاحقا بخيبة أمل بعد أن ألغي طلب إرساله. وفي وقت لاحق من عام 1940 نُقِل إلى فيلق المخابرات، سبب معرفته باللغات. وهنا يبدو أنّ التحاق لويس بهذا الجهاز جاء بحكم الصدفة، وأيضا بسبب فشله في قطعات عسكرية أخرى. ويبدو أنّ معرفته قد شفعت له في الأخير، وأتاحت له موقعا يتلاءم مع شغفه بالقراءة ومتابعة التفاصيل. أصبح لويس يعمل على تفكيك وقراءة رسائل عربية مخابراتية، وهنا بدا كما يذكر يراقب مراسلات السفارة السعودية مثلا في فرنسا ومكالماتها الهاتفية. كان السفير السعودي آنذاك هو فؤاد حمزة، الذي كان يبعث تقارير إلى وزارة الخارجية السعودية، ولذلك كانوا يتفاجؤون بمعرفة البريطانيين بدقائق الأمور. كما يذكر في هذا السياق أنّ ملك مصر فاروق لطالما طلب (بوصفه حليفا) بتزويده بمعرفة خططهم العسكرية، ولأنهم لم يثقوا به كان يزودونه بخطط مفبركة.

الاقتراب من تركيا

بحلول أواخر عام 1944 أصبح من الواضح أنّ المانيا في طريقها لخسارة الحرب، وهنا عدّل الأتراك عن الحياد وأعلنوا الحرب على دول المحور. لكنهم مع ذلك بدوا للويس غير جاهزين، فالمخابرات التركية لم تواكب التطورات التكنولوجية الحديثة، وبالتالي كانت سهلة الاختراق. ولذلك كان لزاماً على البريطانيين إرسال شخص ما للعمل كمسؤول اتصالات ليطور من مهاراتهم، وقد وقع الاختيار على لويس للقيام بذلك، لكن رؤساءه غيروا رأيهم لاحقا وأرسلوا شخصا آخر. هذه الحادثة، وعلى الرغم من أنها أثارت خيبة أمل لدى لويس، لكنها جاءت بمثابة إنقاذ له. فلو أنه ذهب للأتراك بصفة مسؤول في الاستخبارات، لما تمكن لاحقا من إكمال أبحاثه في الأرشيف العثماني، ولبقي بعيون الأتراك جاسوسا.

وقف الحرب في إسطنبول

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد لويس لعمله في الجامعة، ولأنّ بلدان المشرق العربي كانت قد حصلت على استقلالها، وأيضا بدت نخبها تبدي حساسية أكبر تجاه الدولة الاستعمارية وكتابها، ولذلك يذكر لويس أنّ كثير من المؤرخين فضلوا في هذه الفترة إكمال أبحاثهم في تركيا وإيران، وربما هذا ما يفسر الزيادة الكبير في عدد الدراسات التي نشرت عن تركيا وإيران في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم.
قام لويس بزيارة إسطنبول 1949ـ 1950، وأبدى رغبته بدراسة المخطوطة العربية والإسلامية في المكتبات التركية، لذلك تقدم بطلب للدخول إلى أرشيف الإمبراطورية العثمانية، وكان من حظه أنّ أمناء الأرشيف اعتمدوا سياسة أكثر انفتاحا، بالسماح للعلماء غير الأتراك بالاطلاع على مواد الأرشيف. بدا بعد دخوله للأرشيف كما يذكر كطفل في متجر لبيع الألعاب أو كمغامر وجد نفسه في مغارة علي بابا.
في تلك الأثناء، كان الأرشيف العثماني كما يذكر لويس غير منظّم، كما أنّ المختصين في الأرشفة لم يكونوا قد طورا نظاما فعالا لحفظ وتصنيف الوثائق والرسائل المودعة.
أنف لويس ومطبخ السلطان:
فتح الأرشيف العثماني للويس أبوابا جديدة في التأريخ، وكشف له عن فرص غير مسبوقة لدراسة تاريخ الطعام. إذ يضم الأرشيف كما يذكر إشارات في السجلات التفصيلية للضرائب الخاصة بالزراعة، سواء في القرى التركية أو في أنحاء متفرقة من الإمبراطورية. من جهة أخرى أظهرت الوثائق الأرشيفية الخاصة بالقصر في إسطنبول الأطعمة التي يتم طهيها واستهلاكها وكمياتها، وأحيانا ترد الإشارة من أي منطقة جرى استيرادها.
بعد هذه الزيارة بعشر سنوات تقريبا، انتهى لويس من كتابة مؤلف عن «نشوء تركيا الحديثة»، الذي حاول فيه دراسة سياسات أتاتورك بعيد العشرينيات وموقفه الصلب من الدين. وبعد ذلك بعقدين وأكثر (1988) ترجم الكتاب للفرنسية، لكن أكثر ما لفت نظره يومها أنّ الناشرين الفرنسيين عدلوا العنوان وأعطوا الكتاب عنوانا جديدا «الاسلام والعلمانية: ولادة تركيا الحديثة» وعندما سأل الدار عن السبب، أجابوا: الكتاب الذي يحمل اسم الإسلام يباع بكثرة. وفي السيرة قصص وقصص كثيرة عن رحلات لويس ومشاهداته ولقاءاته في الشرق الأوسط، ولذلك قد يشعر القارئ أحيانا وكأنه أمام مغارة من مغارات علي بابا، التي تضمّ أشياء غريبة وعجيبة من يوميات الشرق الأوسط المعاصر…